سورة البقرة - تفسير تفسير البيضاوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة} تعليل للحكمِ السابق وبيان لما يقتضيه. والختم الكتم، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له والبلوغ آخره نظراً إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه. والغشاوة: فعالة من غشاه إذا غطاه، بنيت لما يشتمل على الشيء، كالعصابة والعمامة ولا ختم ولا تغشية على الحقيقة، وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي، واستقباح الإيمان والطاعات بسبب غيهم، وانهماكهم في التقليد، وإعراضهم عن النظر الصحيح، فتجعل قلوبهم بحيث لا ينفذ فيها الحق، وأسماعهم تعاف استماعه فتصير كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لا تجتلي الآيات المنصوبة لهم في الأنفس والآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين، فتصير كأنها غُطي عليها. وحيل بينها وبين الإبصار، وسماه على الاستعارة ختماً وتغشية. أو مثل قلوبهم ومشاعرهم المؤوفة بها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها ختماً وتغطية، وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم} وبالاغفال في قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} وبالاقساء في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وهي من حيث إن الممكنات بأسرها مستندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه ومن حيث إنها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} وردت الآية ناعية عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم. واضطربت المعتزلة فيه فذكروا وجوهاً من التأويل:
الأول: أن القوم لما أعرضوا عن الحق وتمكن ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه.
الثاني: أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن. أو قلوب مقدر ختم الله عليها، ونظيره: سال به الوادي إذا هلك. وطارت به العنقاء إذا طالت غيبته.
الثالث: أن ذلك في الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر، لكن لما كان صدوره عنه بإقداره تعالى إياه أسند إليه إسناد الفعل إلى المسبب.
الرابع: أن أعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى الإلجاء والقسر، ثم لم يقسرهم إبقاء على غرض التكليف، عبر عن تركه بالختم فإنه سد لإيمانهم. وفيه إشعار على تمادي أمرهم في الغي وتناهي انهماكهم في الضلال والبغي.
الخامس: أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولون مثل: {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} تهكماً واستهزاءً بهم وكقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} الآية.
السادس: أن ذلك في الآخرة، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحققه وتيقن وقوعه ويشهد له قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا}
السابع: أن المراد بالختم وَسْمُ قُلوبهم بسمة تعرفها الملائكة، فيبغضونهم وينفرون عنهم، وعلى هذا المنهاج كلامنا وكلامهم فيما يضاف إلى الله تعالى من طبع وإضلال ونحوهما.
و{على سَمْعُهُمْ} معطوف على قلوبهم لقوله تعالى: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} وللوفاق على الوقف عليه، ولأنهما لما اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وإدراك الأبصار لما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة، وكرر الجار ليكون أدل على شدة الختم في الموضعين واستقلال كل منهما بالحكم. ووحد السمع للأمن من اللبس واعتبار الأصل، فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تجمع. أو على تقدير مضاف مثل وعلى حواس سمعهم.
والأبصار جمع بصر وهو: إدراك العين، وقد يطلق مجازاً على القوة الباصرة، وعلى العضو وكذا السمع، ولعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشد مناسبة للختم والتغطية، وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق ويراد به العقل والمعرفة كما قال تعالى: {إِنَّ فِى ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأن الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير. و{غشاوة} رفع بالابتداء عند سيبويه، وبالجار والمجرور عند الأخفش، ويؤيده العطف على الجملة الفعلية. وقرئ بالنصب على تقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة، أو على حذف الجار وإيصال الختم بنفسه إليه والمعنى: وختم على أبصارهم بغشاوة، وقرئ بالضم والرفع، وبالفتح والنصب وهما لغتان فيها. و{غشوة} بالكسر مرفوعة، وبالفتح مرفوعة ومنصوبة و{عشاوة} بالعين الغير المعجمة.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} وعيد وبيان لما يستحقونه. والعذاب كالنكال بناءً، ومعنى تقول: عذب عن الشيء ونكل عنه إذا أمسك، ومنه الماء العذب لأنه يقمع العطش ويردعه ولذلك سمي نقاخاً وفراتاً، ثم اتسع فأطلق على كل ألم قادح وإن لم يكن نكالاً، أي: عقاباً يردع الجاني عن المعاودة فهو أعم منهما. وقيل اشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذب كالتقذية والتمريض. والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكما أن الحقير دون الصغير، فالعظيم فوق الكبير، ومعنى التوصيف به أنه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه وحقر بالإضافة إليه ومعنى التنكير في الآية أن على أبصارهم نوع غشاوة ليس مما يتعارفه الناس، وهو التعامي عن الآيات، ولهم من الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله.


{وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بالله وباليوم الأخر} لما افتتح سبحانه وتعالى بشرح حال الكتاب وساق لبيانه، ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله تعالى وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً ولم يلتفتوا لفتة رأساً، ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلاً للقسم، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله لأنهم موهوا الكفر وخلطوا به خداعاً واستهزاءً، ولذلك طول في بيان خبثهم وجهلهم واستهزأ بهم، وتهكم بأفعالهم وسجل على عمههم وطغيانهم، وضرب لهم الأمثال وأنزل فيهم: {إِنَّ المنافقين فِى الدرك الأسفل مِنَ النار} وقصتهم عن آخرها معطوفة على قصة المُصِّرِّينَ.
والناس أصله أناس لقولهم: إنسان وأنس وأناسي فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يكاد يُجْمَع بينهما. وقوله:
إنَّ المنايا يَطَّلِعْنَ على الإِناس الآمنِينَا ***
شاذ. وهو اسم جمع كرجال، إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع. مأخوذ من أنس لأنهم يستأنسون بأمثالهم. أو آنس لأنهم ظاهرون مبصرون، ولذلك سموا بشراً كما سمي الجن جناً لاجتنانهم. واللام فيه للجنس، ومن موصوفة إذ لا عهد فكأنه قال: ومن الناس ناسٌ يقولون. أو للعهد والمعهود: هم الذين كفروا، ومن موصولة مراد بها ابن أبي وأصحابه ونظراؤه، فإنهم من حيث إنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم، واختصاصهم بزيادات زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس، فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادات يختلف فيها أبعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيماً للقسم الثاني.
واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر، تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادعاء بأنهم احتازوا الإيمان من جانبيه وأحاطوا بقطريه، وإيذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه، فكيف بما يقصدون به النفاق، لأن القوم كانوا يهوداً وكانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيماناً كلا إيمان، لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد، وإن الجنة لا يدخلها غيرهم، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة وغيرها، ويرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم. وبيان لتضاعف خبثهم وإفراطهم في كفرهم، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن إيماناً، فكيف وقد قالوه تمويهاً على المسلمين وتهكماً بهم. وفي تكرار الباء ادعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام.
والقول هو التلفظ بما يفيد، ويقال بمعنى المقول، وللمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ وللرأي والمذهب مجازاً. والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي. أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة.
{وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} إنكار ما ادعوه ونفي ما انتحلوا إثباته، وكان أصله وما آمنوا ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لكنه عكس تأكيداً. أو مبالغة في التكذيب، لأن إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان، ولذلك أكد النفي بالباء وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء، ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به لأنه جوابه.
والآية تدل على أن من ادعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمناً، لأن من تفوه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمناً. والخلاف مع الكرامية في الثاني فلا ينهض حجة عليهم.


{يخادعون الله والذين ءامَنُوا} الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه، وعما هو بصدده من قولهم: خدع الضب. إذ توارى في جحره، وضب خادع وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه، ثم خرج من باب آخر وأصله الإخفاء ومنه المخدع للخزانة، والأخدعان لعرقين خفيين في العنق، والمخادعة تكون بين اثنين. وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه لا تُخْفَى عليه خافية، ولأنهم لم يقصدوا خديعته. بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته كما قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} وإما أن صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر، وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار، استدراجاً وامتثال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم، وإجراء حكم الإسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين. ويحتمل أن يراد ب {يخادعون} يخدعون لأنه بيان ليقول، أو مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المخادعين. ويحتمل أن يراد ب {يخادعون} يخدعون لأنه بيان ليقول، أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه، إلا أنه أخرج في زنة فَاعَلَ للمبالغة، فإن الزنة لما كانت للمبالغة والفعل متى غولب فيه، كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض ومبار استصحبت ذلك، ويعضده قراءة من قرأ: {يَخَدِعُونَ} وكان غرضهم في ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم ما يطرق به من سواهم من الكفرة، وأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإكرام والإعطاء، وأن يختلطوا بالمسلمين فيطلعوا على أسرارهم ويذيعوها إلى منابذيهم إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد.
{وَمَا يُخَادَِعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو والمعنى: أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها يحيق بهم أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية.
وقرأ الباقون: {وَمَا}، لأن المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين وقرئ: {يَخَدِعُونَ} من خدع و{يَخَدِعُونَ} بمعنى يختدعون و{يَخَدِعُونَ} و{يخادعون} على البناء للمفعول، ونصب أنفسهم بنزع الخافض، والنفس ذات الشيء وحقيقته، ثم قيل للروح لأن نفس الحي به، وللقلب لأنه محل الروح أو متعلقه، وللدم لأن قوامها به، وللماء لفرط حاجتها إليه، وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه لأنه ينبعث عنها أو يشبه ذاتاً تأمره وتشير عليه. والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم.
{وَمَا يَشْعُرُونَ} لا يحسون لذلك لتمادي غفلتهم. جعل لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس. والشعور: الإحساس، ومشاعر الإنسان حواسه، وأصله الشعر ومنه الشعار.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8